يثير نزل اللاجئين في حي “هارفستهوده” (Harvestehude) الراقي في هامبورغ جدلاً منذ فترة طويلة. وحالياً، هنالك متطوعان لكل ساكن. كيف يبدو الوضع هناك بعد مضي ستة أشهر على البداية؟ هنا نعرض بعض النتائج المؤقتة.
لقد خاض كرم علي رحلة محفوفة بالمخاطر. فبعد وفاة والدته في دمشق جراء قصف بالقنابل، هرب هذا الطبيب الشاب مع زوجته الحامل على متن قارب صغير إلى جزيرة كوس اليونانية. ومن ثم من مدينة ثيسالونيكي إلى مقدونيا، ومن هناك عبر صريبيا إلى كرواتيا، وأخيراً من سلوفينيا إلى النمسا. أما محطته الأولى في ألمانيا فكانت مدينة كيل، عاصمة ولاية “شليسفيغ-هولتشاين”. ومنذ فبراير تعيش العائلة في نزل للاجئين في هامبورغ، والعنوان هو: شارع “زوفين تيراسه” (Sophienterrasse 1a) في حي “هارفستهوده”.
ولكن هل حدث شيء ما في هذا الشارع؟
قبل أكثر من سنتين دار نزاع مرير حول هذا النزل في حي هامبورغ الراقي “هارفستهوده”. فالمعارضون للمشروع اتهموا مسؤولي المدينة بالرغبة في القضاء على شكل الحي لأسباب أيديولوجية، وجعله أمثولة، والقيام أخيراً بزرع نزل للاجئين في منطقة غنية كهذه.
من كان يؤيد فكرة هذا النزل اُعتبر عطوفاً، أما من كان يعارضه فقد اعتبر مغروراً وبلا قلب. وكان الحديث يدور حول “مليونيرات الألستر” ذوي المشاعر الباردة (الألستر بحيرة شهيرة في هامبورغ) وفاعلي خير ساذجين لا يعرفون ماذا يفعلون. وبعد الكثير من الجدل القانوني تم في سبتمبر 2015 التوصل إلى تسوية: السماح لـ 190 لاجئاً بالسكن في النزل على أن يتم إغلاقه مرة أخرى في عام 2024. ولا يُسمح خلال الخمسين عاماً القادمة بإقامة أي مرافق اجتماعية أخرى في هذا المكان.

تم افتتاح نزل اللاجئين في يناير
في هذه الأثناء تعيش في هذا النزل في شارع “زوفين تيراسه” عائلات من سوريا وأفغانستان وإيران والعراق وكذلك أفراد من الشباب القادمون من أريتريا. فقد جاؤوا من مراكز استقبال اللاجئين الأولى ويتشاركون 23 شقة كبيرة.
في أحد أيام الاثنين من شهر يوليو كان يقف عند مدخل النزل عدد من ساكنيه وهم يحاولون التواصل باليدين والقدمين وبصوت عال، فالألمانية لا تزال لغة أجنبية. وأمام مكتب إدارة النزل تنتظر ثلاث نساء يرتدين الحجاب، واحدة منهن حامل. وعلى مروج بحيرة الألستر يلعب عشرة من الأطفال اليافعين كرة القدم محدثين جلبة لم يكن من الممكن سابقاً سماعها أبداً في الشارع الخالي من حركة المرور.
يقول صاحب أحد المنازل الذي كان مسبقاً ضد افتتاح النزل: “هذا المزيج كان مفقوداً هنا”. ويؤكد ذلك أحد المهندسين الذي كان لا يزال في عام 2015 مستاءً من هذه “التجربة الاجتماعية” المستحيلة. وتقول طبيبة متقاعدة كانت تخشى سابقاً من الأسوء: “عندما يمر المرء، يفسح الرجال الطريق بأدب”.
كما ثبت أيضاً عدم صحة افتراض أن اللاجئين سيتوهون عند التسوق بحيث لن يستطيعوا تمييز متاجر حي “هارفستهوده” الفاخرة التي تبيع أصناف كافيار باهظة الثمن. فمعظمهم يستخدم الحافلة أو الدراجات الهوائية للذهاب إلى متجر “ألدي” (سوبرماكت) على بُعد نصف كيلومتر.
إذن كل شيء على مايرام؟ ليس تماماً. فقد اشتكى السكان مراراً وتكراراً من الضوضاء ليلاً، حيث يتعارك قاطنو النزل في الشارع، وفي داخل السكن يتشاجر ذوو الأعراق المختلفة حول الدين والسياسة. وقد استدعى ذلك قدوم الشرطة أكثر من مرة، وذلك بشكل مماثل لما يحدث أيضاً في مراكز اللاجئين الأخرى في هامبورغ.
“الناس دوماً حاضرون لمساعدتنا”
من يعيش في حي “هارفستهوده” يحصل على رعاية واهتمام وعناية أكبر من منشآت اللاجئين الأخرى. فهناك نحو 400 متطوع من جمعية “هارفستهوده لمساعدة اللاجئين” (Flüchtlingshilfe Harvestehude) يعملون على رعاية قاطني النزل، بحيث يحظى كل لاجئ بمساعدة اثنين من المتطوعين كمعدل.
يشرحون كيف يمكن للمرء إصلاح الدراجات الهوائية أو غرس الطماطم، يشاركون في التدريب على لعب كرة القدم، يساعدون الطلاب في واجباتهم المدرسية ويعينون الكبار في ملء الاستمارات. تقول إسراء صالح، وهي مهندسة زراعية فرت مع أطفالها الثلاث من الحرب في العراق: “الناس دوماً حاضرون لمساعدتنا، هذا أمر لا يُصدق”. لقد كوّنت صداقات مع العديد من المساعدين. وتم دعوتها إلى العديد من المناسبات والأعياد، وعوملت وكأنها واحدة من أفراد الأسرة. ولكن هل هذا هو الحال في جميع أنحاء ألمانيا؟

اسراء صالح
هكذا هو الحال في حي “هارفستهوده” الذي تهيمن عليه الطبقة العليا في هامبورغ، حيث يكرس الناس أنفسهم للمساعدة بحماس كبير: صيادلة، مصرفيون، أطباء، مديرون، محامون. وهناك عدد ليس بقليل من المتقاعدين الذين يرغبون في استغلال الوقت بشكل هادف. وتشكل النساء نسبة 80 في المئة.
“ليس لديهم أدنى معرفة بكيفية تعلم المرء”
قبل سنتين درست “زابينه غروسكوبف” اختصاص “الألمانية كلغة أجنبية” في جامعة هامبورغ. واليوم تقوم المحاضِرة السابقة بتنظيم وتنسيق دورات اللغة في نزل اللاجئين. ولكن الأمر لا يسير بالسرعة الكافية: لماذا لا يزال هناك افتقار للفصول الدراسية؟ أين هي الكتب التعليمية؟ لماذا لا يُسمح للاجئين من مراكز إيواء أخرى بالمشاركة في تلقي الدروس؟
المعدل الاعتيادي للدروس هو 4 ساعات يومياً، حيث يتم التحدث بالألمانية فقط. ومَنْ لا يحضر، يتم إعادته إلى مستوى المبتدئين. ويشكل الأطفال والأشخاص المُتعلّمون أقل مصادر للقلق بالنسبة للمعلمة. بل تكمن المشكلة في الكثير من الأميين، فالبعض لم يتلقى التعليم أبداً، ولا يتحدث إلا لغته الأم فقط. ليس لديهم أدنى معرفة كيف يمكن للمرء أن يتعلم. وهذا ينهك في الكثير من الأحيان المتطوعين الذين يعلمونهم الألمانية. وبالرغم من أن هناك معلمون متقاعدون يقومون بالتدريس، يشارك أيضاً الكثير من الناس العاديين من الفئات المهنية المختلفة، التي لا تجلب معها أكثر من النية الحسنة. “تقول “زابينه غروسكوبف”: “ينبغي عليهم أولاً أن يتعلموا كيف يتعلم المرء”. وهي تدعو بشكل ملح إلى الاستخدام الإضافي للمحترفين: “بدون تعلم الألمانية يفشل الاندماج”. وقد تم منع امرأتين من الحضور مجدداً بسبب مخالفتهما لمبدأ الحياد، حيث لم تلتزما بتعليم اللاجئين، بل أرادتا مناقشة السياسة والدين.
لقد قامت مديرة النزل “كارلوينه سمولني” بجعل زميلتها في العمل تقسم على مبدأ عدم إبداء الرأي على الاختلافات الدينية. “عندما يأتي أحدهم ويشتكي من أن هذا أو ذاك الساكن لم يصم في رمضان، لا نعير لذلك أي اهتمام”. في شارع “زوفين تيراسه” يعيش معاً في مكان ضيق أناس مؤمنون من اتجاهات إسلامية مختلفة مع مسيحيين من طوائف مختلف.
وخلافاً لبعض المتطوعين، لا تدع مديرة النزل، وهي امرأة حازمة تبلغ من العمر 58 عاماً، مجالاً للخداع. فهي تعرف أنه يوجد مشاغبون بين سكان النزل ومشاكسون في الحي. وتعرف أن شارع “زوفين تيراسه” يخضع لمراقبة شديدة الصرامة: بالاعتماد على نتيجة هذه التجربة سيتبين إن كانت المدينة ستجازف بتنفيذ مشاريع مشابهة أخرى.
يجب على “كارلوينه سمولني” أن تفرق بين الشكاوي المبالغ فيها اوالانتقادات المبررة. فقد رفضت مثلاً كلام المرأة الساكنة في الحي التي هجمت على مكتبها باندفاع سريع جارةً بيدها كلباً لتتحدث عن فضيحة صخمة وطاعون وشيك من الفئران بسبب بعض أكياس القمامة المفتوحة، وكذلك الأمر بالنسبة للمتقاعد الغاضب الذي قام من فوق السياح بتوبيخ الأطفال الذين يلعبون في الملعب الجديد.
وبالرغم من ذلك فإنها تأخذ الشكاوي المحقة على محمل الجد. فلا يجوز لسكان النزل مثلاً الاحتفال في الساعة الثالثة ليلاً. ومن لا يلتزم بالهدوء ليلاً، عليه أن يغادر النزل، وذلك بحسب ما تتضمنه نشرة إدارة المركز.

هابتيب تيكلي يرغب في البقاء في ألمانيا دوما
أحد هؤلاء الذين كانوا مهددين بهذا التحذير هو “هابتيب تيكلي” من أريتريا، فقد قام هو ورفاقه بإحداث جلبة قوية خلال وقت النوم بينما كانت النوافذ مفتوحة. يقول: “لم يكن الأمر بذلك السوء”. يعتبر هذا الشاب الذي يبلغ 20 عاماً ويبدو أكبر سناً من عمره والذي فر من الخدمة العسكرية في بلده، ساكناً صعباً. ولذلك تبحث مديرة النزل “كارلوينه سمولني” عن العراب المناسب بين مساعدي اللاجئين وقد وجدت “ميشائيل فيسه”.
في البداية أخذ “ميشائيل فيسه” الشاب الأرتيري مرة لزيارة عائلته في المنزل، وحاول أن يريه الحياة الطبيعة المنزلية بعيداً عن قواعد النزل الصارمة. لقد حاول أن ينتزع منه الشعور بأن إقامته مهددة مع كل خطأ صغير قد يرتكبه. وأوضح له كيف أنه إذا قام بتأهيل نفسه، فقد يتمكن من العمل قريباً. بينما “ميشائيل فيسه” أنه غير مستعد بعد.
كونه معلم مدرسة مهنية سابق فهو يعرف آفاق الشباب الذين يجعلهم عجزهم غير قادرين على معرفة كيفية تحديد اتجاهاتهم في المستقبل. أيضاً “هابتيب تيكلي” ليس لديه خطة حقيقية سوى الرغبة بالبقاء في ألمانيا دوماً. بحسب قوله، يريد هذا الأريتيري “تصليح التلفزيونات”، وربما “شيء ما له علاقة بالإلكترونيات”. ومع ذلك، فهو لم يجلس أبداً أمام جهاز كمبيوتر.
يقول عرابه: “قبل كل شيء ينبغي عليه تعلم الألمانية بسرعة”. ولكن هنالك مشكلة: المعلمات في دورة اللغة المتقدمة يرغبن بإعادة الشاب الأريتري إلى دورة المبتدئين، بينما هو غاضب من ذلك. يوضح “ميشائيل فيسه”: “لا يمكنه الاعتراف بأي نقطة ضعف” ويضيف: “لا يقبل الاعتراف بأن هنالك شيء ما لم يفهمه”. وبالتالي فهو يضع نفسه دوماً في مأزق.
“الوضع هنا يكاد لا يُطاق”

طونيوس ومها هابر مسيحيون من سوريا
على الرغم من هذا الوضع المفضل، وعلى الرغم من وجود العديد من المتطوعين إلا أن بعض قاطني النزل يرغبون بمغادرة شارع “زوفين تيراسه” بأسرع وقت. فعائلة هابر من سوريا – الأب طونيوس والأم مها والأولاد أنطوني وجيرالد – تشعر بالتهديد والخوف. هذه العائلة مسيحية، وقد فروا من وطنهم قبل اندلاع الأعمال القتالية. “يقول الابن أنطوني وهو الوحيد الذي يتحدث بعض الألمانية: “الوضع هنا يكاد لا يكون أفضل من الوضع في بلدنا”، ويضيف :”إنه نفس التمييز”. يقوم المسلمون في نزل اللاجئين بإهانتهم بشكل متواصل، وخاصة الأم مها، التي كانت قد تحولت إلى المسيحية سابقاً، حيث يُنظر إليها بأنها آثمة بسبب ذلك.
وبالرغم من الوضع الحساس، تبدو فرص العائلة بإيجاد شقة خاصة في المدى القصير ضعيفة. إن نقص المعرفة باللغة الألمانية بالنسبة للزوجين يجعل المنظور المستقبلي سيئاً. فالأب طونيوس، الذي كان يعمل سابقاً حارساً شخصياً لرجال أعمال أغنياء، يعتبر حالياً في السوق غير صالح للعمل.
أما كرم علي فلديه أسباب أخرى لرغبته في مغادرة نزل اللاجئين: لأنه قُبل للعمل مؤقتاً في مستشفى، وقريباً سيتولى وظيفة كمساعد طبيب، يبحث عن شقة له ولزوجته وطفلهما الذي جاء إلى العالم في هامبورغ.
يقول: “الوضع هنا يكاد لا يُطاق”. ففي حين أنه ينبغي عليه الاستيقاظ كل صباح في الساعة السادسة وحضور دورات اللغة الألمانية بعد انتهاء مناوبته في العيادة، تقوم العائلات الأخرى الساكنة في الشقة المشتركة بالاحتفال في نصف الليل وإصدار الضجيج في الكثير من الأحيان. وقد ذهبت طلباتهم بالمراعاة سدى حتى الآن. يضيف: “لذلك ينبغي علينا الخروج بسرعة من هنا”.
بالنسبة لمعظم اللاجئين يعتبر مركز إيواء اللاجئين الذي يقع في حي الفيلات جزيرة الأمن والسلامة التي طالما حلموا بها. ولكن ليس مكاناً للسكن الأبدي: بالرغم من أن الإقامة ليست محدودة، إلا أنه وبحسب الإمكان لا ينبغي أن يطول إلى عدة سنوات، كي يصبح هنالك مجدداً مكان لاستيعاب القادمين.
ما لا يعرفه أحد بعد عن المخطط: سيتم إيواء اللاجئين في هامبورغ مستقبلاً في مراكز إيواء صغيرة. فقد التزمت المدينة بخفض عدد ساكني جميع مراكز الإيواء، باستثناء مرافق الإيواء الأولية، إلى 300 شخص كحد أقصى بحلول نهاية عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تصميم جميع مراكز الإيواء الجديدة لتستوعب ما يصل إلى 300 شخص فقط – وهي تسوية تم التوصل إليها بعد مفاوضات مع مبادرة المواطنين “هامبورغ للاندماج الجيد”. وهذا ما قد يؤدي إلى القيام قريبا بتشغيل 300 مركز إيواء في مواقع مختلفة من هامبورغ مع الأعداد المتزايدة من اللاجئين.
مترجم بتصرف عن موقع “شبيغل أونلاين” بواسطة قيس الجاموس