أصبح الكابوس حقيقة، فبعد سياسة الكرم والسخاء التي تعاملت بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وأظهرت من خلالها للعالم الثقافة الألمانية للترحيب بالآخر والتي حازت إعجاب العالم وما تلا ذلك من تنامي التردد والقلق في ألمانيا، صدمت شاحنة بشكل متعمد جموعا من الناس في أحد أسواق أعياد الميلاد وسط العاصمة برلين مما أدى لمقتل 12 شخصا على الأقل وإصابة العشرات.
سرعان ما استدعت الذاكرة الهجوم الإرهابي في مدينة نيس الفرنسية والذي قال تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي إنه وراءه.
ثم جاء الدور على برلين بالقرب من ديوان المستشارية، عند أنقاض كنيسة الذكرى التي دمرت في الحرب العالمية الثانية، ذلك المكان الذي ينتظر له أن يكون نصبا تذكاريا للسلام.
خيم الحزن على أنجيلا ميركل عندما ظهرت أمام الكاميرات أمس الثلاثاء بملابس سوداء وقالت إنه إذا تبين فعلا أن من قام بهذا الهجوم لاجئ فإن ذلك سيكون “مقزز جدا”.
ولكن لا توجد في الوقت الحالي معلومات أكيدة بشأن الجاني حيث أعلن النائب العام الألماني بيتر فرانك بعد ظهر أمس أنه من غير المؤكد أن الشخص الذي ألقي القبض عليه ويعتقد أنه باكستاني هو فعلا من ارتكب الهجوم الإرهابي.
كما أشار فرانك إلى أن المحققين لا يعرفون ما إذا كان مرتكب الهجوم شخص أو عدة أشخاص, ولكن ذلك يعني أيضا أنه أو هم يمكن أن يكون أو يكونوا طلقاء.
وعدت ميركل بإنزال عقوبة شديدة بمرتكب الجريمة في كل الأحوال وأكدت تمسكها بمبادئها قائلة: “حتى وإن كان يصعب علينا ذلك الآن: سنجد القوة من أجل الحياة التي نريد أن نعيشها في ألمانيا، بحرية معا وبانفتاح”.
أضافت ميركل: “لا نريد أن يصيبنا الخوف بالشلل”. لم يكن هذا كافيا لبعض الأعضاء في تحالف ميركل المسيحي الديمقراطي حيث كانوا ينتظرون إعلانا أشد حدة من ميركل حسبما قال أحد الأعضاء من الجناح المحافظ للتحالف والذي طلب عدم ذكر اسمه حيث رأى أنه كان على ميركل أن توضح أن اللاجئين لم يعودوا مصدر إحساس بالإثراء لألمانيا وأنه من الضروري مراقبة جميع حدود ألمانيا وألا يسمح لأحد بدخول ألمانيا دون تفتيش مكثف.
قال هذا العضو إنه ليس هناك مجتمع يتحمل الخوف للأبد من احتمال وجود عدد من الإرهابيين بين نحو مليون لاجئ في البلاد.
أما حليف ميركل التقليدي هورست زيهوفر، رئيس الحزب المسيحي الاجتماعي الشريك في التحالف المسيحي الذي تتزعمه ميركل، فلم يتردد في الإفصاح عن رأيه ومعارضة ميركل صراحة حيث قال اليوم في ميونيخ: “نحن مدينون للضحايا والمعنيين ولجميع السكان بأن نعيد النظر في سياسة الهجرة والسياسة الأمنية وتحديد موقفنا تجاهها من جديد”.
وتعرف ميركل بأنها مستشارة اللجوء التي فتحت الباب الألماني عام 2015 حتى وإن شددت فيما بعد قانون اللجوء بقوة.
أما جيردا هاسيلفِلد، رئيسة الحزب المسيحي الاجتماعي في ولاية بافاريا، والتي عرفت بلهجتها المتزنة خلال الأشهر الماضية فيما يتعلق بسياسة اللاجئين فقالت معلقة على هجوم أمس” “علينا الآن ألا نصاب بالعدوى من الكراهية التي ينثرها بعض الجناة، علينا أن ننظر بهدوء فيما إذا كان علينا إكمال إجراءاتنا الأمنية”.
فهل تتجاوز ميركل التي تبلغ من العمر حاليا 62 عاما وتسعى للترشح مرة أخرى كمستشارة وتخوض غمار الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين ثان/نوفمبر 2017 كل ذلك دون أضرار؟
نفث عدد من أعضاء الحزب المسيحي الديمقراطي الذي ترأسه ميركل خلال مؤتمر الحزب في مدينة ايسن مطلع كانون أول/ديسمبر الجاري عن استيائهم من سياسة المستشارة، بل إن البعض تملكه الغضب فيما يتعلق بالسماح للألمان من أصول أجنبية بالحصول على جنسية بلادهم الأصلية إلى جانب الجنسية الألمانية.
أدى ذلك إلى إعلان أعلى هيئة معنية باتخاذ القرار داخل الحزب رغبتهم في إلغاء الحل الوسط الذي تبناه الحزب مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الشريك في الائتلاف الحاكم.
وتبنت الهيئة الرئاسية للحزب رؤية مفادها أن يلزم أطفال الأجانب بالتخلي عن إحدى جنسيتيهم عند بلوغ سن 18 إلى 23 عاما.
وماذا فعلت ميركل؟ قالت إنها لن تنفذ ذلك وهو ما جعل البعض يتحدثون عن انعزال ميركل عن حزبها.
كانت أحداث رأس السنة الميلادية في مدينة كولونيا العام الماضي بمثابة نقطة تحول عندما اعتدى أعداد كبيرة من الرجال الذين يعتقد أن أكثرهم لاجئون جنسيا على نساء في رأس السنة مما جعل ميركل تلمس تراجع شعبيتها بسبب سياستها المؤيدة لإيواء ألمانيا مزيدا من اللاجئين.
بدأت ميركل تشعر بخوف مواطنيها من الغرباء وقلقهم من عدم تدخل السلطات الأمنية في ألمانيا بالحسم الكافي.
ثم جاءت أحداث ولاية بافاريا الصيف الماضي، كانت أحداثا سيئة ولكن حجمها لم يكن كبيرا ولم يكن بالقوة الرمزية لهجوم برلين الذي وقع أمس.
يواجه وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزير، العضو بحزب ميركل المسيحي الديمقراطي، انتقادات من داخل التحالف المسيحي لميركل نفسه حيث يرى منتقدوه داخل التحالف أنه استفز أعضاء الجناح المحافظ داخل التحالف عندما حذر خلال مؤتمر الحزب في ايسن من التخلي عن الاتفاق مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
ظهر دي ميزير هو الآخر أمام الصحفيين أمس وقال مخاطبا مواطنيه: “فلنقهر معا عدو دولتنا، دولة القانون، وعدو المجتمع الحر ولنظل أصحاب أخلاق شريفة، نحن نحزن، ونناضل من أجل حريتنا”.
وردا على سؤال عما يقوله لرئيس وزراء ولاية بافاريا، هورست زيهوفر، قال دي ميزير إنه لا يفكر الآن سوى في الضحايا وأكد: “ليس اليوم وقتا للحديث عن التداعيات”.
ولكن منتقدي ميركل يريدون الحديث عن العواقب، والآن بالتحديد.
من السهل قراءة مدى استياء أعضاء الحزب المسيحي الديمقراطي من خلال تصريحات كلاوس بويلون، وزير داخلية ولاية زارلاند جنوب ألمانيا والعضو بالحزب، حيث قال في البداية: “نحن في حالة حرب رغم أن بعض الناس الذين لا يرون إلا الخير لا يرون ذلك”.
ثم عاد بويلون وصحح تصريحه وقال: “سأتجنب تعبير الحرب مستقبلا، إنه الإرهاب.. فالحرب هي ما يحدث في سورية”.
يبدو أن بويلون فهم الفارق بين الحالتين على مدار اليوم.
أكدت ميركل في تشرين ثان/نوفمبر الماضي أن المعركة الانتخابية عام 2017 ستكون الأصعب بالنسبة لها. أكد هجوم أمس ذلك بشكل مرير.
أصبحت القوى اليمينية في ألمانيا تراهن بعد هذا الهجوم على تزايد شعبيتها.
ولكن الرئيس الألماني يواخيم جاوك يرى أن الهجوم “وحد ألمانيا في حزنها” وبدا متفائلا عندما قال: “لن تجعلنا الكراهية التي ملأت قلوب الجناة تجاهنا ننزلق للكراهية.. لن يتراجع تعاوننا، سيصبح أقوى عندما نتعرض لهجوم”.
المصدر: د ب أ (من: كريستينا دونس)